الكاتب: ناظم علي
"مثقفون... ولكن!؟ -شارع المتنبي إنموذجاً-"
لن أكتب في تفكيك بنية المثقف العراقي
المعرفية، أو هذا الذي هو "عضويٍ" -بحسب غرامشي-، وذاك الذي هو
"مسؤول وغير مسؤول" -بحسب شريعتي-. فقد تحدثَ وكتبَ من هم أقدم
وأقدر مني باعاً، كالمفكرين، والباحثين...، فلا نية لي بتكرار المفاهيم، أو الإصطلاحات
الفنية ودلالاتها، حيث ستكون محاولتي عملية، أكثرُ منها تنظيرية، كحامل مصباحٍ
أوجه أشعته إلى تلك المناطق المظلمة، والتي ربما لم يسلط عليها الضوء، ويمكن أن
تفاجئني خفافيشٌ لم تعتد وصول إمرءٍ إلى دهاليز جحورها، فتنفر جماعات وتحدث ضجيجاً
مزعجاً.
يتميز شارع المتنبي -في العاصمة بغداد-
بحضورٍ جماهيريٍ نهاية كل إسبوع(الجُمعة)، بل إمتدَّ ليصل إلى شارع الرشيد
والميدان، لمسافة إجمالية تقدر بنصف ميل، وهو يجتذب الناس من أهالي بغداد، وحتى
مواطني المحافظات العراقية الأخرى. وتتسابق وسائل الاعلام الفضائية إلى نقل
نشاطاته المختلفة، من: أدب، ورسم، وحوارات ونقاشات فكرية، فضلاً عن إستعراض الكتب
والفعاليات الموسيقية، ليشاهد العالم(شرقاً وغرباً) صورةً تبعث للأمل،
لشعبٍ عصفت فيه حروبٌ وأزمات، لم تزل ضاغطة عليه حتى اليوم. ويرى المواطن العربي
والإسلامي أيضاً حِراكاً شعبياً "متنوراً" لا مثيل له في
المنطقة، ففي العقود التي مضت، قيل: أن مصر تكتب، ولبنان تطبع، وبغداد تقرأ. أما
اليوم فبغداد تكتب، وتطبع، وتقرأ.
وعلى أيَّةِ حال، قد يطرح أحدهم سؤالاً
بريئاً عقب ما شاهده: لماذا يبدو حال هذا البلد هكذا؟. سوء في التعليم، والخدمات،
والأمن، والتنمية بشكل عام، رغم أنه بلد غني بالنفط والثروات. يُجيبُ عددٌ من
"مختصي" السياسة، والإقتصاد، وو...إلخ العراقيون، اجاباتٍ نمطية،
كتلك التي يطرحها قادة-المحاصصة- الأمنيون، عندما يحدث خرقاً دامياً يودي بحياة
عراقيين أبرياء. وأكثرها ردودٌ تبريرية، ثم نعرف بعد البحث والتمحيص أنَّ هؤلاء
كانوا جزءً من المشكلة، وهم يرتبطون في النظام السياسي الذي جاء بهم، وفق الإنتماء
الحزبي، وليس الكفاءة العلمية، في غياب تكافؤ الفرص، المنصوص عليه في الدستور
العراقي.
والغريب أن النسخة العلمانية لمعظم
مثقفينا تنتمي -ربما- إلى (فرنسا/راديكالية)، لا إلى (أميركا/وسطية).
وهذا يجعل منهم عدائيين إتجاه المقدس -بحسب تعبير دوركهايم-، كفرنسا التي تحظر إرتداء
الحجاب، وهي البلد الديمقراطي. وكما في تركيا، زمن (اتاتورك) إلى وقت قريب، حيث
كان لهذا الأمر ردود فعل عكسية، تساويها في المقدار، وتعاكسها في الإتجاه(نيوتن).
علماً أن مثقفي فرنسا أرادوا الأخذ بأيدي شعبهم إلى رقيِّ الإنسانية، وآفاق
الحداثة، ولم يحتقروا العامة من الناس. فهل من نتحدث عنهم فعلوا الشيء ذاته؟.
ومهما يكن من أمر، فنظرة معمقة إلى هذا
الشارع، ستجد قلة الحضور النسوي فيه نسبياً. وأن هؤلاء المثقفين في غالبيتهم لا
يأتون بمعية أزواجهم، أو بناتهم، أو أخواتهم. اللّهم قلة قليلة منهم. أما لو دخل
رجلٌ يرتدي (دشداشة) مع/أو دون عقال(من المحافظات خارج بغداد أو حتى
داخلها) فسيتعرض للسخرية من قبلهم سراً، أو جهراً وإن كانوا أصحابه. علماً أنَّ
هذا المجتمع له إمتداد عشائري، يفضل هذا الزي، وسيكون الحال أكثر شدة، في حالة
وجود فقيه بلباسه الإسلامي (العباءة والعمامة).
إنَّ هذا يذكرنا بالأفندية، في النصف الأول
من القرن الماضي، وهم يمثلون طيفاً جديداً داخل المجتمع عقب إندحار العثمانيين، وأحتلال
البريطانيين للعراق(1918م). يرتدون السِدارة ويقرأون الصحف في مقاهٍ إنتخبوها
لمعظم وقتهم، وحديثهم المنمق والجذاب، وقد تحدث عنهم (علي الوردي) في كتبه.
كل ذلك من أجل التمايز عن أغلبية المجتمع الجاهل في حينه، وصار من يريد "التحضر"
لِزاماً عليه خلع ملابسه التقليدية، من (الصاية) و(الجراوية)، وإستبدالهما
بالهِندام الجديد. فكم من فولتير وروسو عراقيّ عندنا بعد كل هذا؟.
تزداد مصيبتنا اليوم، ونحن نرى إنَّه ما زال
ينظر إلى المثقف بشكله لا بمحتواه، بمكانته لا بنتاجه. وهذا الإصرار قد عشعش في
اللاوعي الجمعي، وصار عائقاً أمام إرتقاءٍ بناء، وتعاون وتكامل مجتمعي. وكيف -والحال
هذه- تُلامُ أوربا في إخفاقها بإدماج المهاجرين، ونحن لم نستطع إدماج أبناء
المحافظات معنا؟. ومن أجل أن نوضح المقاصد لا بدَّ من الإسترسال.
يعتبر شارع المتنبي مجالاً عاماً لكلِّ
المواطنين، فهو ليس مؤسسةً رسمية، كي تفرض نوعاً معيناً من الملبس، أو ترتضي
لنفسها فكراً وإتجاهاً محددين. ما دام الحاضر يلتزمُ بالآداب العامة، والظهور
بمظهرٍ لآئق. إنَّ الرجل ذو الأصول العربية، وأخوه ذي الأصول الكردية، ومثلهما
التركماني...، يقصدون بغداد لرمزيتها، وبذات الوقت يشعرون بغربة حينما يرتادون هذا
الشارع؛ لأنَّه لا يعبر عن طموحاتهم التأريخية أو التراثية. فأغلب النشاطات الثقافية
تعبر عن إحتكار لفئة غير متجانسة في المجتمع ككل. وهذا الإغتراب يرافقه الحطّ من
قدرهم سراً أو جهراً كما أسلفت. ليولد ردَّ فعلٍ سلبيٍ بالمقابل، وعلى تهديد بمحو
هوية من ينتمون إليها. تبدو عليهم في رفض ما يطرح، أو لا مبالاة على أقل تقدير. والنتائج
تكون وخيمة دائماً؛ إذاعرفنا أنهم يمثلون غالبية هذا المجتمع (قبالة المثقفين).
هذا التجهيل والعزل الجائر، يسري على
نصفنا الآخر (النساء)، دون أيِّ مبرر. فهنَّ ينتشرنَّ في مرافق الدولة،
إضافة إلى تواجدهنَّ في الأسواق والأماكن العامة، عدا تلك التي تهتم بالشأن
الثقافي كشارع المتنبي. وأكتفينَّ بوصمه "الشارع الذكوري"؛ لأنَّ
جزءً من معاناتهنَّ هو الرجل. فلم يكن تمكينهنَّ في الجوانب الإقتصادية بالتوظيف،
أو توفير فرص العمل، يتناسب طردياً مع نموهم المعرفي، أو الثقافي. فما يقبضنّه من
رواتب وأجور، يتم صرفه في "المولات" للحاجات الكمالية في الغالب،
وليس إلى شراء كتاب، وتكوين مكتبة صغيرة في البيت. تعالج هموم العقل، كما هو صندوق
الصيدلية المنزلي الذي يعالج جروح البدن. فالنمط الإستهلاكي المغري، هو أشدًّ وقعاً
في نفوسهنَّ، وهذا التقصير منهنَّ مرتبط بتقصير الرجل إتجاههنَّ أيضاً، وخصوصاً
المثقف.
ومرة أخرى، لو قربنا قليلاً عدسة التحري عن
التفاصيل على هذا الشارع، لاتضحت لدينا مشاهد اضافية لا تخلو من اثارة!. فمثلاً
عدد "مختصي" السياسة، والإقتصاد، وغيرهم -ممن ذكرتهم أعلاه-
يتواجدون في يوم الجمعة كحال بقية الناس، إلا أنَّهم تغلب عليهم "النرجسية"،
فهم يفضلون الجلوس مع نضرائهم المتحزبين، أو الظهور أمام الكاميرات الفضائية
متفيهقين، ولا يشاركون الملتقيات النقاشية "الحرة" التي تقام في
(القشلة) أو أماكن "حرة" غيرها؛ لأنَّها تكشفُ حقائقهم
أمام العامة. علماً أن من يقوم بهذه المبادرات ينتمون -جلّهم- إلى منظمات المجتمع
المدني، والتي منها واجهاتٌ تخفي وراءها أحزاباً تمولها من وراء الكواليس.
فالمشكلة مركبةٌ "تكعيب" بين هذه الجهات الثلاث، مختصين متحزبين،
ومثقفين مزيفين، ومنظمات جلّها مسيسة، هم كلهم مثقفون... ولكن!؟، كل منهم يحتكر
جمهوراً معيناً، ويحضون بتغطية ونفوذ إعلاميين، فلو عرفنا أيضاً إنَّ هؤلاء
المختصين هم أساتذة في جامعاتنا العراقية، ويقومون بين الحين والآخر بالمشاركة في
ندواتٍ، وورش عمل "علمية" داخل وخارج كلياتهم؛ لعرفنا لماذا وصل
المستوى التعليمي عندنا لهذا الحال، طالما إنَّ إنتماء الأستاذ الحزبي يحجب
حقائقاً، أو يُخرسها. وبسبب تسييس التعليم، وتسنم الكثير منهم درجات علمية كـ
"د."، أو "أ.م.د"، أو مناصب إدارية عالية في
مفاصل الوزارة(كالتعليم، والتعليم العالي)، لم يبقَ للأساتذة المستقلين مكاناً
يليق بهم، فتمَّ إقصاءهم من الوسط العلمي، إلى أدوارٍ هامشية لا تذكر، فمنهم من فضّل
السفر إلى الخارج(إستنزاف وهجرة العقول)، وآخرين آثروا البقاء مغلوباً على
أمرهم. ولم يبقَ إلّا قلة قليلة من المثقفين الحقيقيين، يتواجدون هنا وهناك، من
ذوي ضمير الوطن المعذب، يشاهدون أدواراً هزلية على مسرح الفن الهابط .
عند ذلك تنجلي غوامض الأمور التي تستعصي
الفهم. حينما نراقب حركة المجتمع الغير متسقة، مع التيار العاصف من العولمة وإنفتاح
الفضاء، وتأثير مواقع التواصل الإجتماعي، التي نفذت إلى لُبِّ أفراد شبابنا، وأبقت
القشور على حالها، في منظر يدعونا إلى التأمل، والإستقصاء، والبحث الجاد عن الحلول،
وألّا يكتفي المستقلون-الأكفاء- بدورهم السلبي، بل عليهم أن يشركوا أبناء الوطن، إلى
قاع هرمه، في التحول المثمر لحياةٍ أفضل، في النقد البنّاء، وغربلة الأمور، لتمييز
حقيقها من زيفها، كي يعرف المواطن البسيط ما له وما عليه، من أجل خلق جيل يرسم
مستقبلاً مشرقاً، يسعنا جميعاً، ذاك هو الغد الذي كلنا يحلم به.
#ناظم_العراقي
#اتحاد_الشباب_العراقي_لكتاب_المقالات
نبذة بسيطة عن الكاتب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإسم الكامل: ناظم علي.
الولادة ومحلها: (1984م)/ بغداد.
التحصيل الدراسي: بكلوريوس قسم التأريخ/ كلية التربية إبن الهيثم/ جامعة بغداد.
الحالة الإجتماعية: متزوج.
السكن الحالي: بغداد.
الموقع الإلكتروني للكاتب: ناظم العراقي.
"مثقفون... ولكن!؟ -شارع المتنبي إنموذجاً-"
4/
5
Oleh
حسين أكرم غويلي
شاركنا بتعليقك المميز فهو يشجعنا ويساعد على الاستمرار