الكاتب:
عبد الله ناهض
"قوى الهامش الأوربي"
نعني بقوى الهامش الأوربي: تلك الدول التي
تأتي في المرتبة الثانية، أو ربّما أدنى من ذلك، من حيث قوتها بالنسبة لبقية الدول
الأوربية الكبرى، وهي مثل: بولندا، التشيك، المجر، سلوفاكيا، ودول شرق أوربا
عمومًا، وكذلك دول البلطيق: ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا، وأيضًا دول البلقان. هذه
الدول، وعلى الرغم من هامش قوتها الضئيل قياسًا بدولٍ أوربيةٍ أخرى كفرنسا،
وألمانيا، وبريطانيا...، لها تأثيرها المهم من الناحية الجيوسياسية، فهي تشغل
حيزًا جغرافيًا مهمًا، جعله محط أطماع، وأنظار القوى الأوربية الكبرى، فضلًا عن
قوى أخرى مهمة للغاية كالولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية.
ظلت هذه القوى، تعيش بين مطرقة القوة
الروسية من جهة، وسندان القوى الأوربية الغربية من جهة أخرى؛ إذ كانت على الدوام،
ولا سيما إبان القرن العشرين مسيطرٌ عليها من قبل قوى أخرى، فتارةً ألمانيا في
عهدها النازي، وتارةً أخرى ظلت تحت رحمة السيطرة السوفيتية حتى نهاية الحرب الباردة،
بالتالي فهي مسلوبة الإرادة السياسية طوال عقود مضت، ولم تنل استقلالها الحقيقي،
إلّا عقب تفكك الاتحاد السوفيتي في سنة (1991م).
كما،
وسارعت هذه الدول بعد استقلالها، إلى الارتباط بأحلافٍ عسكريةٍ كبرى؛ ذلك من أجل
تأمين حماية أراضيها من أيّة استفزازات، أو هجومات عسكرية ربّما تتعرض إليها من
قبل قوى معادية، أو طامعة فيها، وأبرز هذه الأحلاف: حلف شمال الأطلسي
"الناتو"، الذي استثمر تفكك المعسكر الشيوعي، ليعمل على توسع حدوده
باتجاه دول الشرق الأوربي، وأول عملية توسع له، كانت في سنة (1999م)، والتي تكللت بانضمام ثلاث دولٍ هي
(بولندا، التشيك، المجر)، ومن ثم أعقبتها في سنة (2004م)، أكبر عملية توسع شهدها
بعد الحرب الباردة، والتي ضمت سبع دولٍ وهي (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، سلوفينيا،
سلوفاكيا، بلغاريا، رومانيا)، كذلك انضمت كل من (كرواتيا، ألبانيا) في سنة (2009م)،
وآخر دولة أعلنت عن انضمامها هي (مونتينغرو)، ذلك في سنة (2017م). وربّما لن تتوقف
هذه المسيرة عند هذه الدول فقط؛ فالحلف يسعى إلى ضم المزيد من الدول. وكلها تندرج
ضمن استراتيجيته التي تهدف إلى: أولًا تطويق روسيا الاتحادية، وثانيًا العمل على
منع بزوغ كيان أوربي مستقل عن الهيمنة الأمريكية، وثالثًا منع حدوث أيّة احتكاكات،
ونزاعات عسكرية بين الدول الأوربية؛ بالتالي هو عبارة عن مظلة أمنية للقارة الأوربية.
استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية
المخاوف التي تؤرق هذه الدول، في خدمة مصلحها الاستراتيجية في القارة الأوربية،
وأبرزها: الخشية من جوارها الأوربي القوي، لا سيما الدول التي لديها ماضيًا سلبيًا
معها، كألمانيا، ورسيا الاتحادية، فالأولى عملت على احتلال عدد من بلدان شرق
أوربا، سواءً إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، أو الحرب العالمية الثانية
(1939-1945م). أما الثانية
"إبان الحكم السوفيتي"، فقد عمدت على السيطرة على دول شرق أوربا، ودول
البلطيق، والتي ظلت تحت عباءة الاتحاد السوفيتي يحكمها حكمًا مباشرًا منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية حتى تفككه.
لا تثق دول الهامش الأوربي، بالقوى الأوربية
الأخرى كدول حامية، وحليفة لها، مثل فرنسا، والمملكة المتحدة
"بريطانيا"، فكلتيهما لم تستطيعان حماية هذه الدول من الاحتلال
الألماني، ولا السوفيتي. بالتالي ظلت تعيش على الدوام، في ظل مخاوف عميقة من
جوارها الأوربي القوي، الذي لا ينفك من الإقدام على احتلال هذه الدول، في أيّة
أزمةً، أو حربًا تنشب بين القوى الأوربية، وكمثال على ذلك: الحربين العالمتين
الأولى، والثانية، التي راحت ضحيتها قوى الهامش الأوربي، التي تفقد سيادتها،
واستقلالها في كل مرة.
لذلك نشأت
مصالح مشتركة بين هذه الدول، والولايات المتحدة الأمريكية التي تبحث عن تعزيز
هيمنتها على أوربا، والهامش الأوربي يبحث عن الأمن، وصون استقلال دوله، ومنع تعدي
الدول الأوربية القوية عليها. وهذا لن يتحقق، إلّا بوجود قوة أكثر اقتدارًا،
وهيمنةً من دول أوربا القوية، وهذه الشروط لا تتحقق إلّا في الولايات المتحدة
الأمريكية، التي استثمرت مظلة حلف الناتو لمد نفوذها في الهامش الأوربي، والتي
أيضًا تهدف إلى سحب البساط من القوى الأوربية كفرنسا، وألمانيا اللتان ترغبان
بقيام كيانٍ أوربيٍ قويٍ، ومستقلٍ عن الهيمنة الأمريكية، وفي ذلك نرى الرئيس الفرنسي
(إيمانويل ماكرون)، دعا إلى ضرورة قيام قوة عسكرية أوربية مستقلة، بعيدة عن المظلة
الأمنية للحلف. وهذا ما آثار حفيظة الإدارة الأمريكية التي تخشى على تواجدها في
القارة الأوربية.
بالتالي، عمل الأمريكان على مسألة تركيز
تواجد بلادهم في الدول الأوربية الهامشية، التي لا تثق بجوارها الأوربي القوي،
وذلك عبر نشر الدروع الصاروخية، والقواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها، وعقد
اتفاقيات أمنية معها. الأمر الذي يضع العربة أمام الحصان الأوربي الراغب بالخروج
من العباءة الأمريكية، فكيف يتحقق ذلك؟، وهنالك العديد من الدول الأوربية لا تثق،
أو لا تؤمن بقضية القوة الأوربية المستقلة، والتي تخشى من أن تكون أداة للسيطرة
عليها؟. من هنا تنشأ أهمية الهامش الأوربي، أي بمعنى مدى قدرته على تحديد بوصلة
القوة المهيمنة على القارة الأوربية.
#عبد_الله_ناهض
#كُتّاب_سومريون
قوى الهامش الأوربي
4/
5
Oleh
حسين أكرم غويلي
شاركنا بتعليقك المميز فهو يشجعنا ويساعد على الاستمرار