الكاتب: عمر سلمان
"رؤيا
للخلاص"
افترضت الرؤية الصهيونية في بدايتها، أن
اليهود سيعودون إلى أرض أجدادهم (فلسطين)، بشكل تلقائي؛ ذلك لانعدام قيمة
يهود الشتات، وحتمية معاداة السامية، وكذلك لأنّها حماية لهم من الأخطار الخارجية بتأسيس
دولة لهم، وفي نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت موجات المهاجرين اليهود وغير
اليهود من أوربا، ليستوطنوا العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية)، وغيره
من البلدان، فأستقر ملايين اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة منذ سنة (١٨٨٠)م،
فصاعداً، جاعلين منها واحدةً من أكبر المراكز الروحية لليهود، ولم يذهب إلى فلسطين
إلّا بضعة ألآلف بحسب الإحصاءات التي يذكرها الدكتور "عبدالوهاب المسيري"
في كتابه (الأيديولوجية الصهيونية)، وحتى بعد وضعها تحت الانتداب البريطاني.
وعندما قامت (الدولة اليهودية)، سنة (١٩٤٨)م،
وبعد ستين سنة من الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين، لم يكن عدد اليهود في
إسرائيل عند قيامها أكثر من (٨٠٠) ألف يهودي، ولأن الهجرة التلقائية لم تتم والتي
مردها عوامل عدة منها: ما هو ديني، إذ ترفض بعض الطوائف اليهودية التدخل البشري في
صنع عملية الخلاص لليهود وتحرم تكوين دولة لليهود من الأساس، والتي لا يسعنا
المجال للحديث عنها هنا، وكذلك بعض العوامل الاجتماعية والسياسية والظروف الخاصة
بكل دولة وكل فرد يهودي، وبالعودة إلى الرؤية الصهيونية كان لا بدَّ من نقل اليهود
إلى أرض الميعاد بالرغم عن أنوفهم، وقد سنحت لهم الفرصة الذهبية بعد الحرب
العالمية الثانية، حين كانت معسكرات الاعتقال في أوروبا تعج باليهود الذين لم
يكونوا بالضرورة راغبين بالذهاب إلى للاستيطان في فلسطين، فبحسب استطلاع للرأي العام
الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز سنة ١٩٤٨م(1)، أن ٨٠٪، من نزلاء المعسكرات
كانوا يرغبون بالذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لا لفلسطين؛ نظراً للمحن
التي اجتازوها، وكذلك الصراع الدائر في فلسطين وقتها، وقد مارس الصهاينة أقسى
أنواع الضغط على يهود المعسكرات لأقناعهم بالذهاب إلى فلسطين، وصلت حد الحرمان من
الطعام، في محاولة لنقلهم إلى فلسطين بأي ثمن وبغض النظر عن رغبتهم ورأيهم.
وقد أظهرت التجربة أن الواقع يتم تغييره إذا
لم يتفق مع الرؤية الصهيونية، أي عندما لا يوجد العدد الكافِ من الكوارث فإن
الصهيونية تعمل على تغيير هذا الواقع ليتفق ورؤيتها، أي خلق الأزمات والكوارث التي
تجبر اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين، وهذا ما حصل مع يهود العراق الذي هو محور
بحثنا هنا، ومع إننا لا ندعي أن اليهود كانوا يعيشون حياةً مثاليةً في العراق، فقد
كان العراق يمر بمرحلة انتقالية، وكانت هناك صعوبات تكتنف حياة الأقليات الدينية
بما فيها الأقلية اليهودية، ففي سنه (١٩٤١)م، خرجت مظاهرة هي الأولى من نوعها
بالضد من اليهود، ولكن بشكل عام كان لليهود نصيبهم من السعادة والشقاء.
ففي ديسمبر من العام (١٩٣٤)م، أرسل إلى السير
"همفري"، السفير البريطاني فـي بغداد برقية سرية إلى وزارة
الخارجية البريطانية قال فيها: "إنَّ الجالية اليهودية فـي العراق تتمتع بوضع
مواتٍ أكثر من أي أقلية أخرى في البلاد، وأوضح أنه ليس هناك عداء طبيعي بين اليهود
والعرب فـي العراق."، ويبدو أن تقرير السفير البريطاني كان دقيقاً بصفة عامة
فيهود العراق كانوا مؤمنين بأنهم عراقيون أساساً يرجع نسبهم إلى أيام السبي البابلي
وكان عدد كبير منهم يتمتع برخاءٍ نسبي، وكانت نسبة قيد الصغار من يهود العراق في المدارس
والكليـات أعلى بكثير من النسبة العامة في البلاد. فقد أوضح "رافي نيسان"
اليهودي العراقي الذي هاجر إلى إسرائيل واستوطن فيها: "أنه على الرغم من أنَّ
اليهود العراقيين تركوا ممتلكاتهم خلفهم في العراق فإنهم آتوا معهم بشيءٍ أكثر أهمية
من المال وهو خبرتنا وعلمنا". على حد تعبيره، إذ أنَّ ثلث المهاجرين من يهود
العراق تلقوا تعليماً دون أحد عشر عاماً على الأقل، وأنّ أكثر من ٨٠٪، من أرباب
الأسر المهاجرة كانوا من الحرفيين، وأصحاب المحلات، والإداريين، والمحامين، وهذا أبعد
ما يكون عن صورة الأقلية المضطهدة. وفيما يتعلق بالحكومة والسلطة فقد أعلنت
الحكومة العراقية الملكية، حرية الدين والتعليم والتوظف ليهود بغداد الذين لعبوا دوراً
هاماً للغايةِ في تحقيق رخاء العاصمة وتطورها، وكان هناك ستة أعضاء يهود في
البرلمان العراقي، بل أن مؤسس النظام المالي في العراق هو يهودي يُدعى (ساسون
حسقيل)، وعلى الرغم من هذا السلام والاستقرار اللذين كانت تتمتع بهما الأقلية
اليهودية قرر الصهاينة جعل العراق هدفاً لنشاطهم، والعراق - مثلها في هذا مثل بقية
الدول التي كانت هي الأخرى مطروحة في وقت من الأوقات هدفاً محتملاً لخطة الاستيطان
الصهيوني؛ الأمر الذي كان كافياً في حدِّ ذاته لإثارة التوتر بين أغلبية السكان
والأقلية اليهودية وعندما اقتصرت المخططات الإقليمية الصهيونية على فلسطين وتخومها
آنذاك، تحولت الأنشطة الصهيونية عن أرض العراق وتركزت على يهود العراق فأسس "آهارون
ساسون" سـنـة (١٩١٩)م، جمعية في بغداد تدعى (اللجنة الصهيونية)، وأنشأت
هذه المنظمة فروعاً لها في عدة مدن عراقية، بل أرسلت وفداً عنها إلى المؤتمر
الصهيوني الثالث عشر الذي عقد سنة (١٩٢٣)م، كما قامت بتنظيم جماعات شبابية لأعداد
الشباب المهاجرين وقامت بطبع عدة نشرات شهرية بالعبرية والعربية وأسست مكتبة صهيونية،
وكان الصهاينة يقومون أحياناً -بغرض تسميم العلاقات بين يهود العراق وباقي الشعب
العربي العراقي- بتوزيع منشورات في المعابد تحتوي عل شعارات مهيجة مثل (لا تشتروا
من المسلمين)، متعمدين أن تصل هذه المنشورات إلى أيدي المسلمين، ونجحت الدعاية
الصهيونية إلى حد ما في بذر الشقاق، وبالرغم من ذلك فإنَّ يهود العراق لم يكونوا
منعزلين عن وطنهم. فبعد النشاط الصهيوني لفترة طويلة في العراق وبعد مظاهرات (١٩٤١)م،
المؤسفة استأنف اليهود العراقيين -بجذورهم الثابتة في البلاد- حياتهم الطبيعية فأقاموا
حياً يهودياً، واستثمروا مبالغ ضخمة في مجال البناء في مدينة بغداد؛ إلّا أن الـصهاينة
في العراق أدركوا أنَّ الأيديولوجية الصهيونية لن تلقى قبولاً في معظم الدوائر
اليهوديـة، ثم جاء قيام (الدولة الصهيونية)، والهزيمة العربية الأمر الذي أدى
كما هو متوقع إلى تعقيد الأمور بالنسبة للجميع. فقد أعفا اليهود العراقيون الذين
كانوا يتولون مناصب تتطلب الاتصال بدول أجنبية من مناصبهم، وباستثناء مثل هذه
الحالات فإن رد الفعل العراقي كان يتسم بضبط النفس إذا ما أخذنا في الحسبان إبعاد
الموقف، وعلى الرغم من النشاط الصهيوني المكثف داخل العراق، وعلى الرغـم من تورط بعض
يهود العراق البارزين في هذا النشاط فإنه لم تنشأ حالة هستيريا شعبيـة من ذلك النوع
الذي يجتاح الرأي العام عادة في زمن الحرب، وبصفة خاصة في أعقاب الهزيمة. وقد قال
كبير حاخامات العراق للحاخام بيرجر سنة (١٩٥٥)م: "إننا نسمع أنَّكم في
الولايات المتحدة لم تعاملوا مواطنيكم الياباني معاملة طيبة أثناء موجة الانفعال
العاطفي التي أعقبت بيرل هاربر"، وكان يشير بذلك إلى اعتقال ألاف من
الأمريكيين الياباني، خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد كان من الممكن أن تنتهي المتاعب وقتها
سنة (١٩٤٨)م، وكان من الممكن، أن يستأنف يهود العراق حياتهم بدرجات مختلفة من
التوتر والتوافق، وكان الزمن كفيلاً بجعل الجروح تلتئم، غير أنّ الصهاينة كان لديهم
مخطط مختلف عن هذا، فقد كانت هناك خطوات أساسية لا بد من اتخاذها بهدف تحقيق
الخلاص لـ (103 ألف) يهودي، ولتحسن موقف إسرائيل في الوقت نفسه من حيث عدد السكان،
ونحن نعرف من مصادر صهيونية: أنَّ حركة صهيونية سرية -مثل تلك التي كانت تعمل في
مصر- قد تأسست في العراق سنة (١٩٤٢)م، وأعطيت المنظمة الجديدة أسـم (حـركـة
الرواد البابلي)، وبدأت في تعليم الشبان اليهود كيفية استخدام الأسلحة النارية
وتصنيع المتفجرات، وكونت الحركة السرية جيباً شبه مستقل داخل العراق، كانت له أسلحته
ومجندوه.
وفي
سنة (١٩٤٧)م كتب "إيجال آلون" قائد البامالخ، رسالة إلى "دان
رام" وصفه فيها بأنه (قائد جيتو العراق)، وقامت الهاجاناه بتهريب
الأسلحة -من بنادق وذخائر وقنابل- إلى العراق، وقال آلون في رسالته إلى "دان
رام": إن الهدف من إرسال هذه
الأسلحة هو تشجيع كل أشكال الهجرة. ولكن ما هذا التعبير الغامض? وما الهدف من كل هذه الأسلحة ? أو كما قال حاخام عراقي سنة (١٩٥٥)م: ما الذي كان يراد من كل هذه الأسلحة?، التي عثر عليها فيما بعد (هل كنا سنحارب العراق كله بها؟)، هذا عـلـى افتراض أن ولاءنا كان متجهاً لإسرائيل وهو ما لم يكن كذلك في الواقع. هذا التساؤل الذي طرح عـام (١٩٥٥)م كان له ما يسوغه وكان من الممكن أن يظل دون إجابة لولا تكشف بعض القرائن.
الأسلحة هو تشجيع كل أشكال الهجرة. ولكن ما هذا التعبير الغامض? وما الهدف من كل هذه الأسلحة ? أو كما قال حاخام عراقي سنة (١٩٥٥)م: ما الذي كان يراد من كل هذه الأسلحة?، التي عثر عليها فيما بعد (هل كنا سنحارب العراق كله بها؟)، هذا عـلـى افتراض أن ولاءنا كان متجهاً لإسرائيل وهو ما لم يكن كذلك في الواقع. هذا التساؤل الذي طرح عـام (١٩٥٥)م كان له ما يسوغه وكان من الممكن أن يظل دون إجابة لولا تكشف بعض القرائن.
شهدت بغداد عدداً من الحوادث سـنـة (١٩٥٠)م
فقد ألقيت شحنة ناسفة داخل مقهى أعتاد مثقفو اليهود الاجتماع فيه ثم انفجرت قنبلة
في المركز الإعلامي للولايات المتحدة. ومرة أخرى نجـد أن هذا المركز كان مكاناً أعتاد
الشباب -وخاصة اليهود منهم-أنْ يجلسوا فيه ويقرأوا، وعندما انفجرت قنبلة ثالثة في
معبد (ماسودا شيمتوف)، أودى الحادث بحياة صبي يهودي كما فقد رجل يهودي إحدى
عينيه. ومما لا شك فيه أن الصهاينة كانوا سيصورون هذه الفترة على إنها مذبحة
جماعية أخرى ضد اليهود لولا أن النقاب أزيح بطريق الصدفة عن مخطط صهيوني منظم للأعمال
الاستفزازية، ومن اليهود الذين ظنوا أنَّ الانفجارات كانت من صنع العرب. وكان
هنالك يهودياً عراقياً يدعى "كوخافي" أصبح فيما بعد مواطناً إسرائيلياً
وعضواً بجماعة الفهود السوداء، لكنه قال: إنّه سمع إشاعة تتردد في إسرائيل، بعد أن
كان أفراد الأقلية اليهودية العراقية جميعهم تقريباً قـد هاجروا إلى الدولة الصهيونية
مفادها: إنَّ الحادث كان من فعل عميل صهيوني. وقـد نشر هذا الموضوع أيضاً في الصحف
ولم ينفه أحداً!
إنَّ الحوادث التي تُثبت بالدليل القاطع تورط
المنظمة الصهيونية في إرهاب الأقليات اليهودية في العالم العربي بقصد إجبارهم على
الهجرة إلى فلسطين كثيراً جداً، أننا لا ننفي غضب الشعوب العربية وحكومتها الغبية آنذاك
من العنصر اليهودي؛ بسبب قيام (دولة إسرائيل)، إلّا أن الدور الخارجي ونقصد
هنا (المنظمة الصهيونية)، والدول المتعاطفة معها، كانت لها اليد الطولى في إخلاء
العنصر اليهودي من المجتمعات العربية؛ الذي ساعد كثيراً في قيام (الدولة الإسرائيلية)،
وكذلك في تبني توجهات يمينية مُتطرفة، وانعكاس ذلك بالسلب على المجتمعات العربية فقدانها
أحد مكوناتها، وفي الختام ربما يُحاجج البعض من أن اليهود ما كانوا ليستمروا في
العيش مع مجتمعاتهم العربية لاعتبارات تخص المجتمع العربي بطبيعته إلا أن التجربة
المغربية على الأقل تُبطل هذه الحجة وتدحضها، مع أنني لست في محل الدفاع عن
المجتمعات العربية بقدر إماطة اللثام عن الحقائق المخفية، والعراق من وراء القصد...
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عبدالوهاب
المسير، الأيديولوجية الصهيونية، وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
#عمر_سلمان
#كُتّاب_سومريون
رؤيا للخلاص
4/
5
Oleh
حسين أكرم غويلي
شاركنا بتعليقك المميز فهو يشجعنا ويساعد على الاستمرار