الكاتب: حسين أكرم غويلي
«القيم
الأخلاقية وأخلاقيات بناء المجتمعات الإنسانية»
أخْلاقٌ (اسم): جمع
خُلُق، وهي مجموعة صفات نفسية وأعمال الإنسان التي توصف بالحُسْن أو القُبْح سمو (كرم الأخلاق)،
والخُلُق: حالّ للنفْس رَاسِخَةٌ تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجةٍ
إلى فكرٍ ورويَّةٍ (1). وتعرف الأخلاق لغةً بأنها الطّبع، والسّجية،
والدين -علماً أن الدّين هو الصورة الباطنية للإنسان، أمّا الأخلاق فهي الصورة
الظاهرة له-، ويوصف الشخص بأنَّه حَسَن الباطن، والظّاهر إن كان حَسَن الخُلُق
والخَلْق، أمّا الأخلاق اصطلاحاً فهي قيم راسخة في النفس، تنمُّ عنها الأفعال (2)، وقد تتكون عندها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية،
فإنْ كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خُلُقَاً حسناً، وإنْ كان الصادر
منها الأفعال القبيحة سُمّيت الهيئة خُلُقاً سيئاً (3).
ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الأفعال قد تكون محمودةً فيكون الخُلُق
حَسَناً، أو قد تكون مذمومةً فيكون الخُلُق سيّئاً، ومن هنا تأتي أهمية الأخلاق في
بناء المجتمعات، وكشفت الدراسات الأنثروبولوجيا أن تاريخ الحضارة البشرية مليء
بالشرائع الأخلاقية وأنها تتقارب تقارباً شديداً (4)، وحتى إذا افترضنا
وجود اختلافات بينها فإنه ليس هناك ما يمنع ظهور أخلاقية مطلقة (5)،
وهذا يعني أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري، وأن للقيم وجودها الذاتي حيث تفرض
نفسها على الوجدان البشري بطريقة أولية حدسية "أما عجز بعض الأشخاص عن إدراك
القيم أو التمييز بينها إنما هو "العمى الخلقي" الذي قد يرجع إلى انعدام
النضج أو نقص التربية لديهم" (6).وفيما يأتي سنعرفكم على هذه الأهمية.
هنالك الكثير من
الجدل الذي يدور حول موضوع الأخلاق، وما هو المطلق والنسبي فيها، وهل مصدر الأخلاق
هو الدين أم العقل؟ وهل الذي يحدّد أخلاق الشخص هو الخير والشر؟ هناك آراء مختلفة
في ما يخص الأخلاق لدى الإنسان، ويوجد الكثير من التوجهات المختلفة في تفسير أخلاق
الإنسان، فقد قال أفلاطون: "إنّ الخير فوق الوجود شرفاً وقوّة"، بينما
قال الأشعري: "إنّ الخير والشر بقضاءٌ من الله وقدره"، فلكلِّ إنسانٍ
مجموعة من ردود الأفعال حين تعرّضه للمواقف المختلفة في حياته، وبناءً على ردود
أفعاله يحكم الآخرين على مستوى الأخلاق لديه، وينظر إليها الفلاسفة من زاوية أخرى،
فتارةً ترتبط ردود الأفعال بقيمة الحسن والقبيح وذلك ينتج عن فلسفة الجمال لديهم،
وتارةً أخرى ترتبط بقيمة الخير والشرّ نتيجة لفلسفة الأخلاق، ويرجح البعض أنَّ
الأخلاقَ ذاتَ سلطةٍ مقدّسةٍ مصدها الله، والبعض يقول أنَّ مصدرها العقل فهو
القادر على التمييز بين ردات الفعل على الفعل الأمثل. وللأخلاقِ وجهتان.
الوجهة الأولى: هي التي تشير إلى إنَّ أساسَ الدين هو الأخلاق، وإنَّ
كلاً من الخير والشرّ هو بإرادة الله، فكل ما قال عنه الشرع أنّه حسن هو الخير،
وكل ما نهى عنه الشرع هو الشر، وقد نقل عن ابن حزم الأندلسي أنه قال: "ليس في
العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسن فهو حسن
وفاعله محسن" (7)، ومن الأمثلة التي توضّح قوله هذا إنَّ فعلَ
القتلِ هو خيرٌ في حال كان دفاعاً عن النفس، أمّا في حالة كونه لتحقيقِ مصلحةٍ
شخصيّةٍ فإنّه فعلٌ قبيحٌ، لذلك فإنّ المولى قد أمرنا بفعل كل حسن وتجنب كل قبيح،
وحتّى حين إطاعة أمر الله فإنّه لا يجب أن يعطل العقل فهو يساهم في بناء الأخلاق
أيضاً.
الوجهة الثانية: هي التي تؤيّد أنّ قيم وأخلاق الإنسان التي يتبعها
ويطبّقها مصدرها العقل، فهي قيم ثابتةٌ مطلقةٌ لا يُغيرها تغير الزمان أو المكان،
ويعتبر أفلاطون أشهر المدافعين عن هذه النظرية، فقد قسم أفلاطون الوجود لقسمين،
العالم المحسوس وعالم المُثل، وقال: "إنَّ الأخلاقَ تكون في عالم المُثل
وللعقل القدرة على أن يستعيدها، وإنَّ العقلَ هو الوحيد القادر على التخلص من سجنه
داخل الجسد" (8)، فمن المهم أن يتصرّف الإنسان بشكل يجعله مشروع
أخلاقي، كما يجب احترام القوانين والإنسانية بحيث يعامل الآخرين كونهم غايةً وليس
وسيلةً، ولكن هذا التوجه لا يمكن أن يكون صحيحاً بالكامل فالعقل ليس معصوماً من
فعل الأخطاء، ويحتاج لتوجيه وإرشاد، وخير مرشد له هو الدين.
لا ريب منّا وجوب التفريق
بين الأخلاق والأخلاقيات، والفرق بينهما من ناحية المفهوم والتطبيق، وحيث إننا
كعرب لا نفرق بين الأخلاق والأخلاقيات ونعتبرها واحدة، حيث لا تساعدنا لا اللغة
ولا الضمير الجمعي على رؤية الفرق الجلي بينهما؛ أخذنا نخلط بينهما خلطاً عجيباً
غريباً، وأصبحنا نخلط في مطبخنا الثقافي والحياتي بين الطين والعجين، وهنالك فرق كبير بين الأخلاق (Morals)
والأخلاقيات (Ethics)،
فالأخلاق: هي مجموعة القيم والمبادئ التي تحرك الشعوب مثل العدل، والمساواة،
والحرية؛ وتصبح مرجعية ثقافية لها وسنداً قانونياً تستقي منه دولها أنظمتها
وقوانينها. أما الأخلاقيات: فهي مجموعة القيم والآداب، المتعارف عليها شفهياً
أو كتابياً بين أصحاب مهنة معينة، والتي يبنون عليها الأنظمة والشروط التي يعملون
تحت ظلها كأخلاقيات مهنة. وعادة ما تكون أخلاقيات مهنةٍ ما متضاربة مع أخلاقيات
مهنةٍ أخرى، وذلك في سبيل حماية المصلحة الخاصة والذود عنها. أي أنَّه ليس
بالضرورة، أن تكون أخلاقيات مهنة متماشية مع أخلاقيات مهنةٍ أو مهنٍ أخرى، أو مع
الصالح العام. فكل مهنة بالطبع، تتحيز لنفسها ولمصلحة العاملين بها. والدين بشكل عام سند للأخلاق، وفي كثير من أحكامه الفقهية ضابط إن لم
يكن مضاداً للأخلاقيات. أي أنَّ الدينَ داعمٌ ومؤيدٌ للأخلاق، التي تصب في الصالح
العام. وتظهر المشكلة جلية عندما يتم الخلط بين الأخلاق والأخلاقيات، وهذا ما وقع
فيه العرب قديماً وحديثاً. حيث خلطوا الأخلاق بالأخلاقيات، أو بمعنى، دمجوا
الأخلاق بالأخلاقيات وتعاملوا معها من هذا المنظور المجحف بحق الأخلاق، وأصبحوا
يتمتعون بأخلاقيات لا بأخلاق، ويعتبرونها الأخلاق. ولذلك فقدوا أيَّ مرجعيةٍ
أخلاقيةٍ تُستند لها ثقافتهم الوجدانية الجمعية وتبنى عليها قوانينهم وأنظمتهم
الحياتية الخاصة والعامة؛ ليصبح لديهم منظومة أخلاقية معترف بها ومتعارف عليها. وأتى هذا الخلط الغريب والعجيب، من التكوين البنيوي الاجتماعي
والثقافي ثم السياسي التاريخي للعرب. فقبل أن تتكون للعرب دولة، بمعنى الدولة التي
تكونت لاحقاً، كان غالبية العرب، يقطنون الصحراء، ويمتهنون مهنة الرعي. أي كانت
مهنة الرعي مهنتهم الرئيسة إن لم تكن الوحيدة، التي يعتاشون منها. ولذلك فمن
الطبيعي أن تظهر لديهم أخلاقيات مهنة الرعي واضحة وجلية. إذ شكلت لديهم منظومة
أخلاقيات؛ تمثلت بثقافة القبيلة من عادات وتقاليد، أخذت تحركهم وتحفظ مصالحهم، ضد
المهن الأخرى وأصحابها. ولذلك فليس بالمستغرب أن يستنكف العربي القبلي من المهن
الأخرى مثل الصناعة والزراعة ويحقرها ويحقر العاملين بها، والتي كان من الممكن أن
تغري بعض الرعاة لترك مهنة الرعي والانتقال للعمل بها، وقس على ذلك الاندماج مع
الآخر وما شابه ذلك من عادات وتقاليد تمليها أخلاقيات مهنة الرعي. والأخلاقيات
تعتمد دوماً على مفهوم التميز الذاتي والإقصائية للآخر.
عاش العرب بتحرك
ثقافتهم ووجدانهم الجمعي أخلاقيات مهنة الرعي، لأكثر من ألفي سنة، قبل أن تتأسس
لهم دولة. وعندما أتى الإسلام وتأسست الدولة العربية الإسلامية، كان من المفترض أن
تتحرك أنظمتها وقوانينها على منظومة الأخلاق الشرعية التي عمل بها، رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، ولكن عملية حرق المراحل التي أتت بعد مرحلة النبوة، والتي
قامت الدولة بفرض سيطرتها وهيمنتها سريعاً وبوقت قياسي على مناطق شاسعة وشعوب
متباينة، أفقدتها ميزة البناء والنضج التدريجي الحضاري التراكمي، الذي كان من
الممكن أن تتشكل من خلاله منظومة أخلاق متفق عليها من قبل جميع فئات شعوبها، خاصة
كونها تمتلك الأساس الديني الداعم لمنظومة أخلاق متحضرة ومتفق عليها؛ ولم يحدث ذلك. ولضمان سيطرة النخبة العربية الحاكمة للدولة الجديدة، المسنودة
بعصبتها وعصبيتها القبلية، على مكاسبها التي أخذت تدر عليها ثروات طائلة ميسرة
وغير منقطعة؛ حركت أخلاقياتها الرعوية لتتحكم بمقاليد سلطة دولتها الجديدة، وتنعم
بـ "الغنيمة" لوحدها دون غيرها من باقي فئات وشعوب الدولة،
ولتضفي الشرعية على تحكمها بمقاليد السلطة والغنيمة وتضمن عدم منازعة غيرها لها
فيها. جللت أخلاقياتها الرعوية بالصبغة الدينية، وأخذت تحكم من منطلق منطق الراعي
بالرعية الحرفي لا الرمزي. ولذلك
تحولت علاقة الأفراد بالدين إلى علاقة أفقية لا عامودية، أي أصبح الدين ينظم
ويشرعن علاقة الأنا بالسلطة وعليه الأنا بالآخر، لا الأنا بالذات الإلهية، خاصة في
الأمور العقيدة والتعبدية الخاصة. كما تم تهميش مقاصد الشريعة من حفظ الحقوق
بالعدل ونفي الظلم (أخلاق)، وتم التركيز على الحلال والحرام (أخلاقيات)
وجعلها صلب الدين وركيزته. وعليه تم بالتدريج نظم منظومة أخلاقيات عربية مقدسة؛
سعت لتطبيقها واحتكار تفسيرها النخب الحاكمة آنذاك. فأصبح من يتمسك بها يضمن نعيم
الدنيا ونعيم الآخرة، بجانبهم وحدهم دون غيرهم، من المعارضين والمزاحمين لهم.
ولذلك أصبح التمسك بأخلاقيات النخبة الرعوية المقدسة شرطاً للنجاة بالدنيا والآخرة،
ورفعت المعارضة السياسية للنخب الحاكمة نفس الشعار وهو دحض الحجة الدينية بالحجة
الدينية المقابلة لها؛ وعليه ساد خطاب الإقصاء الديني والإقصاء الديني المضاد؛ ولذلك
فليس بالمستغرب أن يلاحظ المؤرخ العربي ابن خلدون، أنه لا يمكن توحيد العرب
سياسياً إلّا من خلال الدين، كما أنَّه لاحظ كذلك أن العرب، لم يبرزوا بمجال
الفكر، فلسفة وعلوم دين ومنطق، والذين برزوا بها هم المسلمون من غير العرب. وأما
العرب فبرزوا بالشعر فقط. وهذا ليس بالمستغرب، فالشعر هو الفن الوحيد الذي يتقنه
ويطرب له الرعاة. وليس بالمستغرب كذلك أن يلاحظ أنه حتى الشعر العربي، ينضح بتفخيم
الأنا وتمجيد الفحولة، وعدوه سياقاً موازياً وداعماً لسياق الخطاب العربي السياسي
التسلطي أكثر منه للأدب الإنساني. كما أن المفكر محمد عابد الجابري، في مشروعه
"نقد العقل العربي" نقد في جزئيه "نقد العقل المعرفي"
و"نقد العقل السياسي" نقداً وافياً؛ حيث وجد مادة غنية لنقدها في
هذين الجزئين. ولمّا شرع في جزئه الثالث "نقد العقل الأخلاقي" لم
يجد مادة أخلاقية كافية يستطيع نقدها، حيث لم يجد منظومة أخلاق عند العرب. ولم يجد
لديهم سوى أخلاقيات، مثل الرجولة والشهامة والشجاعة والكرم، وهي شروط تشترطها مهنة
الرعي على العاملين بها، أي أخلاقيات مهنة الرعي. ووجد أن أدبيات الأخلاق
المتداولة وغير الفاعلة لديهم، ما هي إلّا أدبيات ترجمت من الحضارات الفارسية
واليونانية والهندية؛ ولذلك فليس بالمستغرب ألّا تهز قضية أي مجزرة تحدث في بلد
عربي يروح ضحيتها مئات الأطفال والنساء والرجال العُزل، لا الرأي ولا الضمير
العربي. وتعصف في وجدانهم قضية فتاة، تسكن منعمة بدولة غربية، يطلب منها، لدواع
أمنية أو تنظيمية أن تخلع نقابها أو حجابها، وتصبح قضيتهم الشاغلة لهم دون غيرها
من قضاياهم المصيرية، فالأولى تنتمي لمنظومة الأخلاق حفظ الحياة والحق في العيش
الإنساني الكريم؛ حيث لا وجود لها في ضميرهم الجمعي، والثانية تنتمي لمنظومة
أخلاقيات الرعاة، وهي الخروج على أعراف وتقاليد وشروط القبيلة، الحاضنة والمستأمنة
على مراعاة وحفظ أخلاقيات الرعي. وهنا يبرز السؤال التالي: فهل نحن كعرب تحركنا منظومة أخلاق أم منظومة أخلاقيات؟، إذ للأخلاق أهمية
في بناء المجتمع ولها قاعدة أساسية للمجتمع، إذ تعتبر قاعدة أساسية لبناء
المجتمعات، حيث تُبنى عليها جميع القوانين والأحكام، وهي الأساس الذي تقوم عليه
مبادئ الحضارة الإنسانية وهي عنوان الشعوب، الأمر الذي يجعلها أساس صلاح المجتمع،
والدرع الواقي من المسبّبات المؤدّية لانهياره، وتحويلها إلى مجتمعات تحكمها الشهوات
أو الغرائز، وبالتالي سيادة قانون الغاب فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): معجم المعاني الجامع، باب الخاء، ب ت.
(1): معجم المعاني الجامع، باب الخاء، ب ت.
(2): إبن منظور. لسان العرب، م10، ص86، دار المعارف، ب ت.
(3): الأصفهاني، الراغب. مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص (297)، دار
القلم، 2009.
(4): زكريا إبراهيم. المشكلة الخلقية، ص 62.
(5): المصدر السابق نفسه، ص 63.
(6): المصدر السابق نفسه، ص 76.
(7): ابن حزم، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد. الفصل في
الملل والأهواء والنحل، مكتبة السلام العالمية، م 3، ص (39).
(8): أنظر لنظرية المُثل لأفلاطون.
................................
#حسين_أكرم_غويلي
#اتحاد_الشباب_العراقي_لكتاب_المقالات
القيم الأخلاقية وأخلاقيات بناء المجتمعات الإنسانية
4/
5
Oleh
حسين أكرم غويلي
شاركنا بتعليقك المميز فهو يشجعنا ويساعد على الاستمرار